* * * * * *
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يُضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لاإله إلاّ الله وحده لاشريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
{ يَــأَيُّــهَا الَّذِيــنَ ءَامَنُـــــواْ اتَّقُــواْ اللهَ حَـقَّ تُـقَاتِــهِ وَلاَ تَمُـــوتــُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } [ آل عمران : 102 ] .
{ يَــأَيُّــهَا النَّـــاسُ اتَّقُــواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّـفْسٍ واحِــدَةٍ وَخَلَقَ مِنْــهَا زَوْجَهَا وَبَـثَّ مِنْـهُـمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً وَاتَّــقُواْ اللهَ الَّذِى تَـسَآءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيـْكُمْ رَقِـيباً } [ النساء : 1 ] .
{ يَــأَيُّــهَا الَّذِيــنَ ءَامَنُـــــواْ اتَّقُــواْ اللهَ وَقُـولُواْ قَــوْلاً سَدِيداً * يُـصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَــلَكُمْ وَيَغْــفِرْ لَكُمْ ذُنــُوبَكُمْ وَمَن يُطــِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقــَدْ فَـازَ فَـوْزاً عَظِيــماً } [ الأحزاب : 70 ـ 71 ] .
أما بعـــد : فإن موضوع الفتن موضوع مهم ، قد حظي بمكانة واسعة في آيات القرآن الكريم ، والسنة النبوية ، ويتجلى ذلك واضحاً في تلك الكوكبة من الآيات القرآنية الكثيرة التي عنيت بالحديث عن موضوع الفتن ، وكذلك فيما جاء من الحديث عن ذات الموضوع في السنة النبوية من أحاديث شريفة ، كثيرة جداً ، يحتاج المرء لكي يحصرها إلى اطلاع واسع ، وقراءات طويلة تستوعب ماجاء في السنة النبوية . وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدلُّ على أن المسلم يجب ألاّ يُغفل هذا الميدان ومعرفته . فالمرء مفتون بالخير والشر ، والسرَّاء والضرَّاء ، والغنى والفقر ، والمرض والعافية . والمسلم مفتون ومبتلى بالكافر ، والكافر مبتلى بالمسلم ، وكل واحد مفتون بالآخر . وصدق الله القائل:
{ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً } [ الفرقان : 20 ] ، وعلى ذلك : فدراسة موضوع الفتن وعرضها واستخراج العبرة منها من القضايا المهمة في حياة المسلمين ، أما الغفلة أو التغافل عنها ، ونسيانها فهذا أمر خطير جدُّ خطير ، وشرٌّ أيما شر للفرد والأمة . والإسلام حرص من وراء تنبيه المسلم إلى الفتن وعلاماتها ومقدماتها وأزمانها وأماكنها وأناسيها وأحوالها وأهدافها ليكون المسلم على بينة مما يظهر أمامه على ساحة الحياة . فهو لايُفاجأ بما يظهر أمامه لأن إسلامه قد علمه أمر هذه الفتن .
وعلى ذلك فالمسلم يختلف عن غيره عند حدوث الفتن ، وسقوط الكوارث والمحن فهو يُرجع كل شيء إلى الله تعالى ، فعليه ـ سبحانه ـ يعتمد ، وبه يستنجد ، ومنه يستمد المعونة . وأما غيره فهو في غاية الإرهاق والتعب ، والنكد والنصب ، لأنه يتعامل مع الفتن وظواهرها تعاملاً غير صحيح .
والفتن مهمة في حياة الأمة . فلولاها ماعُرف الرجال من أشباههم ، وما عُرف المنافقون مما سواهم ، والصادقون في إيمانهم من الكاذبين . قال تعالى : { أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُـتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءَامَنَّا وَهُمْ لاَيُفْـتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِ ينَ مِن قَبْــلـِهِمْ فَليَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِ ينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الكَـــذِبِـينَ } [ العنكبوت : 2 - 3 ] . فالافتتان والاختبار والتمحيص محك صدق الإيمان في السابقين والصالحين . ثم إن الفتن هي التي تكشف عن معادن الرجال ديناً وخلقاً وثباتاً ووفاءً والتزاماً وحفظاً للعهد .
ومن هنا كان اهتمام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بها بالغاً ، وتعظيمه لشأنها في غير ماحديث ( ) ، كوصفه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لها تارة بقطع الليل المظلم ، بحيث يصبح الرجل فيها مؤمناً ، ويمسي كافراً ، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً ، يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل ، فينقلب في اليوم الواحد هذا الإنقلاب السريع ، وما ذاك إلاّ لعظم شأن الفتن وشدة وقعها ، وفرط سوادها وظلمتها ، وعدم تبين الصلاح والفساد فيها .
* ونجده ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصف الفتن تارة أخرى بأنها تقع كالظُّلل ـ ( ) يعود الناس فيها أساود صُباً ( ) يضرب بعضهم رقاب بعض .
وهذا تشبيه بليغ منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث شبههم فيما يقولونه من الفتن والقتل والأذى بالصب من الحيات السوداء العظام التي إذا أرادت أن تنهش ارتفعت ثم انصبت على فريستها .
* والفتن إذا حلت بساحتها حلت عمياء صمّاء مطبقة ، يصير الناس فيها ـ بلا عقول ـ كالأنعام ، كما وصفها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وما ذاك إلا لشدة هولها ، وعظيم وقعها .
* كما شبه ـ صلى الله عليه وسلم ـ شدة الفتن وقوتها بتموُّج موج البحر وترادف بعضه فوق بعض .
* وأخبر ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن الفتن من شدة هولها ، وعظيم شأنها ، تَعْوَجُّ فيها عقول الرجال وتذهب ، وتموت منها قلوبهم كما تموت أبدانهم .
كل هذا وذاك يدل على بالغ أمر موضوع الفتن وأهميتها وبشاعة وقعها وعظم شأنها ، وشدة هولها . ولذلك كانت عناية السلف بمعرفتها واضحة ، واهتمامهم بذكرها ودراستها جلياً .
وهــذا مما يؤكد ضرورة بث ماأخـــبر به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما صح عنه ـ من الفتن الغابرة واللاحقة بين الناس ، ونشر ماثبت من الأحاديث التي أخبر فيها ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأمارات الساعة وأشراطها ، وحذَّر فيها من الفتن الواقعة قبلها ، ليفيق الناس من سُباتهم ، وينتبهوا من غفلتهم ، ويعتبروا ويكونوا على أُهبة الاستعداد ، والحذر التام ، كي لاتباغتهم تلك الفتن ، فتحول بينهم وبين التوبة والإنابة إلى الله تعالى .
هذا وقد دعا العلماء إلى بث ونشر تلك الأحاديث المتعلقة بالفتن وأشراط الساعة بين فينة وأخرى في جِواء المسلمين وبين صفوفهم .
قال البَرْزَنْجي ( ) ـ رحمه الله بعد أن ذكر أن الدنيا لم تُخلق للبقاء ، وإنما جعلت للتزود منها للدار الآخرة ، ودار القرار ، وهي قد آذنت بالانصرام والتولي ـ :
( ولذا كان حقاً على كل عالم أن يشيع أشراطها ، ويبث الأحاديث والأخبار الواردة فيها بين الأنام ، ويسردها مرة بعد أخرى على العوام ، فعسى أن ينتبهوا عن بعض الذنوب ، ويلين منهم بعض القلوب ، وينتبهوا من الغفلة ، ويغتنموا المهلة قبل الوهلة.....) ( ) .
وإن من سنن الله تعالى في خلقه ابتلاء هم وتعريضهم للفتنة ، حتى يعلم الذين صدقوا منهم ويعلم الكاذبين .
فسنة الحياة الدنيا والبشر فيها ، تجعل من المستحيل أن يخلو المرء فيها من فتن وكوارث تصيبه ، ومحن وشدائد تحل بساحته ، فكم يخفق له عمل ، أو يخيب له أمل ، أو يموت له حبيب ، أو يمرض له بدن أو قريب، أو يُفقد منه مال ، أو.... ، أو .....، إلى آخر مايفيض به نهر الحيا ة .... حتى قال الشاعر يصف الدنيا وما يعتريها من كوارث وفتن ، وأكدار ومحن :
جُبلت على كدرٍ وأنت تُريدها صــفواً مــن الآلام والأكــــدار !
ومُكَلِّفُ الأيام ضـــدّ طبــاعهـا مُتَطَلِّبٌ في الماء جـــذوة نــــــار
وقد افتُتن وابتُلي الماضون الأولون ، كابراهيم الخليل ـ عليه السلام ـ ألقي في النار ، وكقوم نُشروا بالمناشير في دين الله فلم يرجعوا عنه ، وكقوم موسى وفتنة فرعون لهم ، وغيرهم من المؤمنين في غابر الأزمان .
بيد أن هذا الافتتان والابتلاء يُبتلى به المؤمن على قدر ماعنده من الإيمان ، فيُفتتن العبد على حسب دينه ، فإن كان في دينه صلباً اشتدّ بلاؤُه ، وإن كان في دينه رقة ابتُليَ على حسب دينه ، فما يبرح البلاءُ بالعبد حتى يتركَهُ يمشي على الأرض ، وما عليه من خطيئة ( ) .
وليست كل فتنة نذير شر وهلاك ، بل قد يكون افتتان المؤمن وابتلاؤه دليل خير لانذير شر ، كما يدل على ذلك حديث أنس أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال :
(( إن عظم الجزاء مع عظم البلاء ، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم ، فمن رضي فله الرضا ، ومن سخط فله السخط )) ( ) .
والله سبحانه يبتلي ويمتحن الخلق بعضهم ببعض ، فيمتحن الرسل بالمرسل اليهم ، ودعوتهم إلى الحق والصبر على أذاهم . وتحمل المشاق في تبليغهم رسالات ربهم ، وامتحن المرسلَ إليهم بالرسل ، وهل يطيعونهم وينصرونهم ويصدقونهم أم يكفرون بهم ، ويردون عليهم ويقاتلونهم ؟ وامتحن العلماء بالجهال ، هل يعلمونهم وينصحونهم ، ويصبرون على تعليمهم ونصحهم ، وإرشادهم ولوازم ذلك ؟ وامتحن الجهال بالعلماء ، هل يطيعونهم ويهتدون بهم ؟ وامتحن الأغيناء بالفقراء ، والفقراء بالأغنياء ، وامتحن الرجال بالنساء ، والنساء بالرجال ، والمؤمنين بالكفار ، والكفار بالمؤمنين ، وامتحن الإنسان بنفسه ، لأن العبد في هذه الدار مفتون بشهواته ونفسه الأمارة ، وذلك باتباعه واندراجه تحت أحضان شهواته ، فيكون رهيناً لها ، فيفتن نفسه بنفسه ، ويهلكها بالفتنة بشتى أنواعها ( ) .
فلهذه الأهمية البالغة للموضوع ولأسباب اختياره ـ الآتية بعده ـ وللرغبة الملحة في خدمتــه واعطائــه حقــه : عقــدت العزم ، واستــعنت بالله ، وقررت بعد استخارته ـ سبحانه ـ والاستشارة أن يكون موضوع رسالتي وعنوانها : ( موقف المسلم من الفتن في ضوء الكتاب والسنن ) وذلك مع عرض نماذج من أسس تلك الفتن وأصولها وكبارها وأشهرها ، ليتحدد من خلالها موقف المسلم منها ، إذْ لايمكن تحديد الموقف من الشيء الاّ بعد معرفته وتصوره جيداً . والقاعدة تقول : ( الحكم على الشيء فرع عن تصوره ) .
هذا والله أسأل أن يلهمني رشدي ، ويعيذني من شر نفسي ، ويوفقني للهدى والصواب ، إنه هو العزيز الوهاب ، وأن يجعلني والمسلمين من الصابرين الصامدين صمود الجبال الراسيات ، أمام الفتن الكاسحات ، وأن يجعلنا ممن تزيدهم إيماناً على إيمانهم ، وعلى ربهم يتوكلون
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يُضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لاإله إلاّ الله وحده لاشريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
{ يَــأَيُّــهَا الَّذِيــنَ ءَامَنُـــــواْ اتَّقُــواْ اللهَ حَـقَّ تُـقَاتِــهِ وَلاَ تَمُـــوتــُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } [ آل عمران : 102 ] .
{ يَــأَيُّــهَا النَّـــاسُ اتَّقُــواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّـفْسٍ واحِــدَةٍ وَخَلَقَ مِنْــهَا زَوْجَهَا وَبَـثَّ مِنْـهُـمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً وَاتَّــقُواْ اللهَ الَّذِى تَـسَآءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيـْكُمْ رَقِـيباً } [ النساء : 1 ] .
{ يَــأَيُّــهَا الَّذِيــنَ ءَامَنُـــــواْ اتَّقُــواْ اللهَ وَقُـولُواْ قَــوْلاً سَدِيداً * يُـصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَــلَكُمْ وَيَغْــفِرْ لَكُمْ ذُنــُوبَكُمْ وَمَن يُطــِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقــَدْ فَـازَ فَـوْزاً عَظِيــماً } [ الأحزاب : 70 ـ 71 ] .
أما بعـــد : فإن موضوع الفتن موضوع مهم ، قد حظي بمكانة واسعة في آيات القرآن الكريم ، والسنة النبوية ، ويتجلى ذلك واضحاً في تلك الكوكبة من الآيات القرآنية الكثيرة التي عنيت بالحديث عن موضوع الفتن ، وكذلك فيما جاء من الحديث عن ذات الموضوع في السنة النبوية من أحاديث شريفة ، كثيرة جداً ، يحتاج المرء لكي يحصرها إلى اطلاع واسع ، وقراءات طويلة تستوعب ماجاء في السنة النبوية . وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدلُّ على أن المسلم يجب ألاّ يُغفل هذا الميدان ومعرفته . فالمرء مفتون بالخير والشر ، والسرَّاء والضرَّاء ، والغنى والفقر ، والمرض والعافية . والمسلم مفتون ومبتلى بالكافر ، والكافر مبتلى بالمسلم ، وكل واحد مفتون بالآخر . وصدق الله القائل:
{ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً } [ الفرقان : 20 ] ، وعلى ذلك : فدراسة موضوع الفتن وعرضها واستخراج العبرة منها من القضايا المهمة في حياة المسلمين ، أما الغفلة أو التغافل عنها ، ونسيانها فهذا أمر خطير جدُّ خطير ، وشرٌّ أيما شر للفرد والأمة . والإسلام حرص من وراء تنبيه المسلم إلى الفتن وعلاماتها ومقدماتها وأزمانها وأماكنها وأناسيها وأحوالها وأهدافها ليكون المسلم على بينة مما يظهر أمامه على ساحة الحياة . فهو لايُفاجأ بما يظهر أمامه لأن إسلامه قد علمه أمر هذه الفتن .
وعلى ذلك فالمسلم يختلف عن غيره عند حدوث الفتن ، وسقوط الكوارث والمحن فهو يُرجع كل شيء إلى الله تعالى ، فعليه ـ سبحانه ـ يعتمد ، وبه يستنجد ، ومنه يستمد المعونة . وأما غيره فهو في غاية الإرهاق والتعب ، والنكد والنصب ، لأنه يتعامل مع الفتن وظواهرها تعاملاً غير صحيح .
والفتن مهمة في حياة الأمة . فلولاها ماعُرف الرجال من أشباههم ، وما عُرف المنافقون مما سواهم ، والصادقون في إيمانهم من الكاذبين . قال تعالى : { أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُـتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءَامَنَّا وَهُمْ لاَيُفْـتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِ ينَ مِن قَبْــلـِهِمْ فَليَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِ ينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الكَـــذِبِـينَ } [ العنكبوت : 2 - 3 ] . فالافتتان والاختبار والتمحيص محك صدق الإيمان في السابقين والصالحين . ثم إن الفتن هي التي تكشف عن معادن الرجال ديناً وخلقاً وثباتاً ووفاءً والتزاماً وحفظاً للعهد .
ومن هنا كان اهتمام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بها بالغاً ، وتعظيمه لشأنها في غير ماحديث ( ) ، كوصفه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لها تارة بقطع الليل المظلم ، بحيث يصبح الرجل فيها مؤمناً ، ويمسي كافراً ، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً ، يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل ، فينقلب في اليوم الواحد هذا الإنقلاب السريع ، وما ذاك إلاّ لعظم شأن الفتن وشدة وقعها ، وفرط سوادها وظلمتها ، وعدم تبين الصلاح والفساد فيها .
* ونجده ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصف الفتن تارة أخرى بأنها تقع كالظُّلل ـ ( ) يعود الناس فيها أساود صُباً ( ) يضرب بعضهم رقاب بعض .
وهذا تشبيه بليغ منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث شبههم فيما يقولونه من الفتن والقتل والأذى بالصب من الحيات السوداء العظام التي إذا أرادت أن تنهش ارتفعت ثم انصبت على فريستها .
* والفتن إذا حلت بساحتها حلت عمياء صمّاء مطبقة ، يصير الناس فيها ـ بلا عقول ـ كالأنعام ، كما وصفها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وما ذاك إلا لشدة هولها ، وعظيم وقعها .
* كما شبه ـ صلى الله عليه وسلم ـ شدة الفتن وقوتها بتموُّج موج البحر وترادف بعضه فوق بعض .
* وأخبر ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن الفتن من شدة هولها ، وعظيم شأنها ، تَعْوَجُّ فيها عقول الرجال وتذهب ، وتموت منها قلوبهم كما تموت أبدانهم .
كل هذا وذاك يدل على بالغ أمر موضوع الفتن وأهميتها وبشاعة وقعها وعظم شأنها ، وشدة هولها . ولذلك كانت عناية السلف بمعرفتها واضحة ، واهتمامهم بذكرها ودراستها جلياً .
وهــذا مما يؤكد ضرورة بث ماأخـــبر به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما صح عنه ـ من الفتن الغابرة واللاحقة بين الناس ، ونشر ماثبت من الأحاديث التي أخبر فيها ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأمارات الساعة وأشراطها ، وحذَّر فيها من الفتن الواقعة قبلها ، ليفيق الناس من سُباتهم ، وينتبهوا من غفلتهم ، ويعتبروا ويكونوا على أُهبة الاستعداد ، والحذر التام ، كي لاتباغتهم تلك الفتن ، فتحول بينهم وبين التوبة والإنابة إلى الله تعالى .
هذا وقد دعا العلماء إلى بث ونشر تلك الأحاديث المتعلقة بالفتن وأشراط الساعة بين فينة وأخرى في جِواء المسلمين وبين صفوفهم .
قال البَرْزَنْجي ( ) ـ رحمه الله بعد أن ذكر أن الدنيا لم تُخلق للبقاء ، وإنما جعلت للتزود منها للدار الآخرة ، ودار القرار ، وهي قد آذنت بالانصرام والتولي ـ :
( ولذا كان حقاً على كل عالم أن يشيع أشراطها ، ويبث الأحاديث والأخبار الواردة فيها بين الأنام ، ويسردها مرة بعد أخرى على العوام ، فعسى أن ينتبهوا عن بعض الذنوب ، ويلين منهم بعض القلوب ، وينتبهوا من الغفلة ، ويغتنموا المهلة قبل الوهلة.....) ( ) .
وإن من سنن الله تعالى في خلقه ابتلاء هم وتعريضهم للفتنة ، حتى يعلم الذين صدقوا منهم ويعلم الكاذبين .
فسنة الحياة الدنيا والبشر فيها ، تجعل من المستحيل أن يخلو المرء فيها من فتن وكوارث تصيبه ، ومحن وشدائد تحل بساحته ، فكم يخفق له عمل ، أو يخيب له أمل ، أو يموت له حبيب ، أو يمرض له بدن أو قريب، أو يُفقد منه مال ، أو.... ، أو .....، إلى آخر مايفيض به نهر الحيا ة .... حتى قال الشاعر يصف الدنيا وما يعتريها من كوارث وفتن ، وأكدار ومحن :
جُبلت على كدرٍ وأنت تُريدها صــفواً مــن الآلام والأكــــدار !
ومُكَلِّفُ الأيام ضـــدّ طبــاعهـا مُتَطَلِّبٌ في الماء جـــذوة نــــــار
وقد افتُتن وابتُلي الماضون الأولون ، كابراهيم الخليل ـ عليه السلام ـ ألقي في النار ، وكقوم نُشروا بالمناشير في دين الله فلم يرجعوا عنه ، وكقوم موسى وفتنة فرعون لهم ، وغيرهم من المؤمنين في غابر الأزمان .
بيد أن هذا الافتتان والابتلاء يُبتلى به المؤمن على قدر ماعنده من الإيمان ، فيُفتتن العبد على حسب دينه ، فإن كان في دينه صلباً اشتدّ بلاؤُه ، وإن كان في دينه رقة ابتُليَ على حسب دينه ، فما يبرح البلاءُ بالعبد حتى يتركَهُ يمشي على الأرض ، وما عليه من خطيئة ( ) .
وليست كل فتنة نذير شر وهلاك ، بل قد يكون افتتان المؤمن وابتلاؤه دليل خير لانذير شر ، كما يدل على ذلك حديث أنس أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال :
(( إن عظم الجزاء مع عظم البلاء ، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم ، فمن رضي فله الرضا ، ومن سخط فله السخط )) ( ) .
والله سبحانه يبتلي ويمتحن الخلق بعضهم ببعض ، فيمتحن الرسل بالمرسل اليهم ، ودعوتهم إلى الحق والصبر على أذاهم . وتحمل المشاق في تبليغهم رسالات ربهم ، وامتحن المرسلَ إليهم بالرسل ، وهل يطيعونهم وينصرونهم ويصدقونهم أم يكفرون بهم ، ويردون عليهم ويقاتلونهم ؟ وامتحن العلماء بالجهال ، هل يعلمونهم وينصحونهم ، ويصبرون على تعليمهم ونصحهم ، وإرشادهم ولوازم ذلك ؟ وامتحن الجهال بالعلماء ، هل يطيعونهم ويهتدون بهم ؟ وامتحن الأغيناء بالفقراء ، والفقراء بالأغنياء ، وامتحن الرجال بالنساء ، والنساء بالرجال ، والمؤمنين بالكفار ، والكفار بالمؤمنين ، وامتحن الإنسان بنفسه ، لأن العبد في هذه الدار مفتون بشهواته ونفسه الأمارة ، وذلك باتباعه واندراجه تحت أحضان شهواته ، فيكون رهيناً لها ، فيفتن نفسه بنفسه ، ويهلكها بالفتنة بشتى أنواعها ( ) .
فلهذه الأهمية البالغة للموضوع ولأسباب اختياره ـ الآتية بعده ـ وللرغبة الملحة في خدمتــه واعطائــه حقــه : عقــدت العزم ، واستــعنت بالله ، وقررت بعد استخارته ـ سبحانه ـ والاستشارة أن يكون موضوع رسالتي وعنوانها : ( موقف المسلم من الفتن في ضوء الكتاب والسنن ) وذلك مع عرض نماذج من أسس تلك الفتن وأصولها وكبارها وأشهرها ، ليتحدد من خلالها موقف المسلم منها ، إذْ لايمكن تحديد الموقف من الشيء الاّ بعد معرفته وتصوره جيداً . والقاعدة تقول : ( الحكم على الشيء فرع عن تصوره ) .
هذا والله أسأل أن يلهمني رشدي ، ويعيذني من شر نفسي ، ويوفقني للهدى والصواب ، إنه هو العزيز الوهاب ، وأن يجعلني والمسلمين من الصابرين الصامدين صمود الجبال الراسيات ، أمام الفتن الكاسحات ، وأن يجعلنا ممن تزيدهم إيماناً على إيمانهم ، وعلى ربهم يتوكلون